صدرَ عن مؤسَّسة الثقافة بالمجَّان كتابٌ جديدٌ لناجي نعمان، هو الثَّاني له في سلسلة "سِفرٌ من سَفَر"، يحملُ عنوانَ "على مِثال أبي الفضائِل نقولاَّوُس"، وفيه سيرة المتروبوليت نقولاَّوُس نعمان (1911-1982)، المُرسَلِ البولُسيِّ وأسقفِ بُصرى وحوران وجبل العرب، لِمناسبة الذكرى الخامسة والثَّلاثين لِغياب الحَبر. ويُزيِّنُ غلاف الكتاب الذي يقعُ في 272 صفحة من الحجم الوسط رسمٌ للمُرسَل الشَّابّ، في إطار تصميمٍ للفنَّان نبيل رستم.
وجمعَ المطرانُ الرَّاحلُ بين التقوى والتواضع، والحزمِ الإداريِّ والرؤيويَّة. وُلدَ في العام 1911 بدمشق، ودرسَ في مدرسة القدِّيسة حنَّة (الصَّلاحيَّة) للآباء البيض ببيت المَقدِس، وشغلَ مناصبَ هامَّةً، منها إدارةُ الدُّروس في الكليَّة البطريركيَّة بدمشق، ورئاسةُ المدرستَين، الصغرى فالكبرى، لدى الآباء البولُسيِّين بحَريصا، ورئاسةُ المدرسة البطريركيَّة ببيروتَ في عزِّ أحداث العام 1958. وأمَّا الجزءُ الأكبرُ من رسالته كمُكرَّسٍ فقضاها في حوران بسوريا، مدبِّرًا رسوليًّا (1959-1967)، فمتروبوليتًا حتَّى وفاته المفاجِئَة في العام 1982.
وترك الأسقف نعمان، إلى فضائله، كتاباتٍ علميَّةً بالعربيَّة، وتَقَوِيَّةً بالفرنسيَّة؛ ونالَ، وهو في الثامنة والثلاثين من العمر فقط، وسامَ السُّعف الأكاديميَّة من رتبة فارس، قلَّده إيَّاه، في العام 1949، جورج بيدو، وزير الخارجيَّة الفرنسيَّة!
***
ومن الكتاب نقتطفُ صرخةً من المؤلِّف، ناجي نعمان، إلى عمِّه الرَّاحِل، جاءَ فيها:
"عمَّاهُ، يا فارِسًا ما عَرَفَتْهُ بادِيَةٌ، ومُغامِرًا ما حَمَلَه شِراع،
"تَفاهَةُ بَني العَصر، سَخافتُهُم، وتَتْفيهُهُم القِيَمَ الإنسانيَّةَ، والفَضائِلَ، أَتْفَهُ طَريق ٍ لإِفْناءِ البَشَريَّة، وأَقْصَرُها!
"في العالَمِ صِراعاتُ دِيَكَةٍ لا طائِلَ منها، تَفْتَعِلُها رأسُماليَّةٌ مُتَوَحِّشَةٌ لا إلى شَبَعٍ، تَسْتَغِلُّ الجَهلَ وذَوِيهِ، تُؤَجِّجُ التَّناقَضاتِ الدِّينيَّةَ العِرقيَّةَ، وسِواها، فتَكونُ حُروبٌ ومَجازِرُ، وتُجْدِبُ أرضٌ وتُنْهَشُ أجساد.
"رِجالُ دُنيا، لِدُنياهُم، بالدِّين يُتاجِرون؛ ورِجالُ دينٍ، لِدُنياهُم، بالدِّين يُتاجِرون! بَشَرٌ يَتَلَمَّسون اللهَ، والحَقيقةَ، على التَّعريفِ يَختَلِفون، وبالشُّرور يَتَسَبَّبون.
"وَيْحًا لَهُم، لَمْ يَلْمُسوا، بَعدُ، جَوهَرَ اللهِ، والحقيقةِ، والخَيرَ لا يَنْشُرون!
"وفي العالَمِ طَواويسُ مَعرفةٍ جُهَّلٌ، وطَواويسُ تَقوى "مُرابون"، فمِن أين يَأْتي الفَرَج؟
"أفكارُ الكِبار في العِلم والأدب، مِمَّن شَحَذوا أَذهانَهم، وماتوا، في إِبائهم، فُقَراءَ، يَسْتَعيدُها، مُشَوَّهَةً، مُهَرِّجون، لا جديدَ لديهم، سِوى الاستِعطاءِ عندَ أبواب النَّافِذين، لِمَلءِ بُطونهم مِن فُتات.
"ضاعَ "شَقا" الأجداد، "عَوْناتُهم" ضاعَتْ، والأوقافُ! عَرَقُ جَبين المُكَرَّسين القِدِّيسين غَدا رَفاهِيَةَ مَن كَرَّسوا أنفُسَهم للدُّنيَويَّات، ولِعِبادة الرَّبِّ الآخَر!
"فبَعدَما أَضاعوها الوَزَناتِ، وتَقاسَموها الثِّيابَ، وما اقَتَرَعوا، تَجِدُهم لا يَعمَلون عَلَّهم لا يُخطِئون، ويُخطِئون إِذْ يَعمَلون؛ ويُخطِئون، أكثَرَ ما يُخطِئون، وقَد حَوَّلوا جَلْدَ الذَّاتِ جَلْدَ رَعيَّةٍ، جَلْدًا مِن المَهْد إلى اللَّحْد! وَيَزْنونَ... ولا يَتَصَدَّقون!
"وَيْحًا لَهُم، لَمْ يُدْرِكوا أنَّهم بغِنى الرَّعِيَّة أغنياءُ، وبإِفقارِ أبنائِها، وتَهجيرِهم، زائِلون!
"وأمَّا عُروبَتُكَ عَمَّاهُ، أنتَ الآرامِيَّ، يا مَن لَم يَخْلَعْ ثَوبَ كَهنوته إلاَّ لِيَلبَسَ زِيَّ العُرْبِ؛ وأمَّا عُروبتُكَ، وعُروبَتي، فماءٌ في صَحراء الفراغ!"